سورة النحل - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{وَمَا بِكُم} أي أيُّ شيء يلابسكم ويصاحبكم {مِن نّعْمَةٍ} أية نعمةٍ كانت {فَمِنَ الله} فهي من الله، فما شرطيةٌ أو موصولة متضمّنة لمعنى الشرط باعتبار الإخبارِ دون الحصول فإن ملابسةَ النعمةِ بهم سببٌ للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه تعالى {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} مِساساً يسيراً {فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} تتضرعون في كشفه لا إلى غيره، والجُؤار رفعُ الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى:
يراوِحُ من صلَواتِ الملي *** ك طوراً سجوداً وطوراً جؤارا
وقرئ: {تَجَرون} بطرح الهمزة وإلقاءِ حركتها إلى ما قبلها، وفي ذكر المِساس المُنْبىءِ عن أدنى إصابةٍ وإيرادِه بالجملة الفعلية المعربةِ عن الحدوث مع ثم الدالةِ على وقوعه بعد برهةٍ من الدهر وتحليةِ الضُّر بلام الجنس المفيدةِ لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسمُ الجنس مع إيراد النعمةِ بالجملة الاسميةِ الدالةِ على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيرادِ (ما) المعربةَ عن العموم ما لا يخفى من الجزالة والفخامة، ولعل إيرادَ إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب.
{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ} وقرئ: {كاشَفَ الضر}، وكلمةُ ثم ليست للدلالة على تمادي زمانِ مِساس الضرّ ووقوعِ الكشفِ بعد برهة مديدةٍ بل للدلالة على تراخي رتبةِ ما يترتب عليه من مفاجأة الإشراك المدلولِ عليها بقوله سبحانه: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ} فإنّ ترتبها على ذلك في أبعد غايةٍ من الضلال، ثم إن وُجّه الخطابُ إلى الناس جميعاً فمِن للتبعيض والفريقُ فريقُ الكفرة، وإن وجه إلى الكفرة فمن للبيان، كأنه قيل: إذا فريق كافرون أنتم. ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى: {فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} فمن تبعيضية أيضاً، والتعرضُ لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبحِ ما ارتكبوه من الإشراك والكفران.
{لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم} من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضَهم في الشرك كُفرانَ النعمة وإنكارَ كونها من الله عز وجل {فَتَمَتَّعُواْ} أمرُ تهديد، والالتفاتُ إلى الخطاب للإيذان بتناهي السَّخَط، وقرئ بالياء مبنياً للمفعول عطفاً على ليكفروا على أن يكون كفرانُ النعمة والتمتعُ غرضاً لهم من الإشراك، ويجوز أن يكون اللامُ لامَ الأمرِ الواردِ للتهديد {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبةَ أمرِكم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيدٌ أكيدٌ منبىءٌ عن أخذٍ شديد حيث لم يُذكر المفعولُ إشعاراً بأنه مما لا يوصف.


{وَيَجْعَلُونَ} لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعداداً لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون من الجُؤار إلى الله تعالى عند مِساس الضرر ومن الإشراك به عند كشفِه ويجعلون {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} أي لما لا يعلمون حقيقتَه وقدرَه الخسيسَ من الجمادات التي يتخذونها شركاء لله سبحانه جهالةً وسَفاهةً ويزعُمون أنها تنفعهم وتشفعَ لهم، على أن ما موصولةٌ والعائدُ إليها محذوف، أو لما لا علم له أصلاً وليس من شأنه ذلك فما موصولةٌ أيضاً والعائدُ إليها ما في الفعل من الضمير المستكنْ، وصيغةُ جمعِ العقلاءِ لكون (ما) عبارةً عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاءِ، أو مصدريةٌ واللامُ للتعليل أي لعدم علمِهم والمجعولُ له محذوفٌ للعلم بمكانه {نَصِيبًا مّمّا رزقناهم} من الزرع والأنعام وغيرِهما تقرباً إليها {تالله لَتُسْئَلُنَّ} سؤالَ توبيخٍ وتقريع {عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} في الدنيا بآلهة حقيقةٍ بأن يُتقرَّب إليها، وفي تصدير الجملةِ بالقسم وصرفِ الكلامِ من الغَيبة إلى الخطاب المنبىءِ عن كمال الغضبِ من شدة الوعيد ما لا يخفى.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنَاتِ} هم خُزاعةُ وكِنانةُ الذين يقولون: الملائكةُ بناتُ الله {سبحانه} تنزيهٌ له عز وجل عن مضمون قولِهم ذلك أو تعجيبٌ من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} من البنين، و(ما) مرفوعةُ المحلِّ على أنه مبتدأٌ والظرفُ المقدمُ خبرُه، والجملةُ حاليةٌ وسبحانه اعتراضٌ في حق موقعِه، وجعلُها منصوبةً بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدّي إلى جعل الجعْلِ بمعنى يعمّ الزعمَ والاختيارَ.
{وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى} أي أخبر بولادتها {ظَلَّ وَجْهُهُ} أي صار أو دام النهارَ كلَّه {مُسْوَدّا} من الكآبة والحياءِ من الناس، واسودادُ الوجه كنايةٌ عن الاغتمام والتشويش {وَهُوَ كَظِيمٌ} ممتلىءٌ حَنقاً وغيظاً.
{يتوارى} أي يستخفي {مِنَ القوم مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ} من أجل سوئِه، والتعبيرُ عنها بما لإسقاطها عن درجة العقلاء {أَيُمْسِكُهُ} أي متردداً في أمره محدّثاً نفسَه في شأنه أيمسكه {على هُونٍ} ذل، وقرئ: {هوانٍ} {أَمْ يَدُسُّهُ} يُخفيه {فِى التراب} بالوأد، والتذكيرُ باعتبار لفظ ما، وقرئ بالتأنيث {أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ} حيث يجعلون ما هذا شأنُه عندهم من الهُون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد، والحالُ أنهم يتحاشَون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدارُ الخطأ جعلُهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلُهم البنين لأنفسهم ولا عدمُ جعلهم له سبحانه، ويجوز أن يكون مدارُه التعكيس لقوله تعالى: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى}


{لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} ممن ذكرت قبائحُهم {مَثَلُ السوء} صفةُ السَّوْء الذي هو كالمثَل في القبح وهي الحاجةُ إلى الولد ليقوم مقامَه عند موتهم، وإيثارُ الذكور للاستظهار بهم ووأدُ البنات لدفع العار، وخشيةُ الإملاق المنادي كلَّ ذلك بالعجز والقصورِ والشحِّ البالغ، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بأن مدارَ اتصافِهم بتلك القبائح هو الكفرُ بالآخرة {وَللَّهِ} سبحانه وتعالى {المثل الاعلى} أي الصفةُ العجيبةُ الشأنِ التي هي مثلٌ في العلو مطلقاً، وهو الوجوبُ الذاتيُّ والغِنى المطلقُ والجودُ الواسعُ والنزاهةُ عن صفات المخلوقين، ويدخل فيه علوُّه تعالى عما قالوه علواً كبيراً {وَهُوَ العزيز} المنفردُ بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم {الحكيم} الذي يفعل كلَّ ما يفعل بمقتضى الحكمةِ البالغةِ وهذا أيضاً من جملة صفاتِه العجيبة تعالى.
{وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس} الكفارَ {بِظُلْمِهِمْ} بكفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما عُدّد من قبائحهم، وهذا تصريحٌ بما أفاده قوله تعالى: {وَهُوَ العزيز الحكيم} وإيذانٌ بأن ما أتَوْه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غايةَ وراءَه {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا} على الأرض المدلولِ عليها بالناس وبقوله تعالى: {مِن دَابَّةٍ} أي ما ترك عليها شيئاً من دابة قطُّ بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلمِ الظالمين كقوله تعالى: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقول: إن الظالم لا يضُرُّ إلا نفسَه فقال: بلى والله حتى إن الحُبارَى لتموت في وَكرها بظلم الظالم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: كاد الجُعَلُ يهلِك في جُحره بذنب ابن آدمَ أو من دابة ظالمة وقيل: لو أَهْلك الآباءَ لم يكن الأبناءُ، فيلزم أن لا يكون في الأرض دابةٌ لِما أنها مخلوقةٌ لمنافعِ البشر لقوله سبحانه: {هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً} {ولكن} لا يؤاخذهم بذلك بل {يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا ويكثُرَ عذابُهم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ} المسمّى {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ} عن ذلك الأجلِ أي لا يتأخرون، وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له {سَاعَةِ} فذّةً، وهي مثَلٌ في قلة المدة {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي لا يتقدمون، وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدامُ عند مجيء الأجلِ مبالغةً في بيان عدمِ الاستئخارِ بنظمه في سلك ما يمتنع، كما في قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} فإن من مات كافراً مع أنه لا توبةَ له رأساً قد نُظم في سِمْطِ من لم تُقبل توبته للإيذان بأنهما سيان في ذلك وقد مر في تفسير سورة يونس.
{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ} أي يُثْبتون له سبحانه وينسُبون إليه في زعمهم {مَا يَكْرَهُونَ} لأنفسهم مما ذكر، وهو تكريرٌ لما سبق، تثنيةً للتقريع وتوطئةً لقوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} العاقبةَ الحسنى عند الله تعالى كقوله: {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} وقرئ: {الكُذُبُ} وهو جمع الكَذوب على أنه صفةُ الألسنة {لاَ جَرَمَ} رد لكلامهم ذلك وإثباتٌ لنقيضه أي حقاً {أَنَّ لَهُمْ} مكان ما أمّلوا من الحسنى {النار} التي ليس وراءَ عذابها عذابٌ وهي عَلَمٌ في السُّوآى {وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ} أي مقدَّمون إليها من أفرطتُه أي قدّمتُه في طلب الماء، وقيل: مَنْسيّون من أفرطتُ فلاناً خلفي إذا خلّفتُه ونسِيتُه، وقرئ بالتشديد وفتح الراء من فرَّطتُه في طلب الماء، وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات، وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونانِ حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11